نداء الغرباء
الاغتراب عن الأوطان من أصعب ما يعايشه المرء في حياته، فإنه يكاد يجد له صاحباً، ولا يركن إلى أنيس. ورغم قسوة هذه الغربة إلا أن غربة الدين أشد قسوة، فما بالك برجل غريب بين أهله لا يكاد يجد منهم موافقاً، ولا في طلب الحق مرافقاً، فليت شعري أي غربة يعيشها الدين وأهله في هذا الزمان. لكن على غريب الدين أن يتأسى بمن سبقوه في الغربة الأولى؛ ليتخذ من سبيلهم طريقاً ومنهجاً، ويجعل من سيرتهم معيناً ومنهلاً.
غربة الدين في انطلاقته الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه، عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وبلال وجابر ، وجماعة من الصحابة تجاوزت عدتهم خمسة عشر صحابياً، فهو من الأحاديث المتواترة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن غربة المسلم تتجدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل وانقطاع، وقد عمت الأرض الوثنية والشرك، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد قال بعضهم لبعض: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7] . أقوام تعودوا على تعدد الآلهة، وعلى تعدد الأنداد لرب العالمين، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد، وهو أرفق وأوفق قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] وكالوا له ولأصحابه العذاب والتهم التي هم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده مع بعض المؤمنين به، قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام، جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: من أرسلك؟ قال: الله أرسلني. قلت: أرسلك بماذا؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان. قال: ومن معك؟ قال: حر وعبد) إشارة إلى أبي بكر وبلال ، والنبي صلى الله عليه وسلم الثالث، وعمرو بن عبسة هو الرابع، لذلك قال: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام). وقال سعد بن أبي وقاص كما في البخاري : ( لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام ) وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: ( لقد رأيتني مع النبي صلى الله عليه وسلم وامرأة وخمسة أعبد وأبي بكر ) . كان الإسلام يعاني من قلة الأتباع؛ لأن المجتمع الجاهلي الذي تسود فيه الوثنية لا يأذن لمثل هذه الدعوة أن تنتشر؛ لأن فيها دعوة إلى إزالة الفوارق، وأن يصير أبو جهل كعبده الذي يبيعه في الأسواق سلعة، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فكانوا يأنفون من ذلك، وكانوا إذا طافوا بالكعبة لا يأذنون للعبيد أن يطوفوا معهم، فكيف يقفون في صف واحد يدعون الله تبارك وتعالى، وما منعهم من قبول الإسلام إلا الكبر. بدأ الإسلام غريباً في أهل الجاهلية، والذي يتأمل غربة الأصحاب الأوائل يرى أن غربتنا في هذه الأزمان هي ذات الغربة، ولكن هناك فرق بين الغرباء، فالغرباء الأوائل كانوا يستعلون بإيمانهم؛ لذلك لم يبالوا بالعذاب، فلم يفتنهم، وكانوا يحتسبون العذاب في الله تبارك وتعالى، بخلاف المتأخرين من الغرباء، فإن إيمانهم هش ضعيف، لذا فإنهم يفتتنون عندما ينزل بهم العذاب، وتسود وجوههم كما يسود المعدن غير الأصيل إذا تعرض للنار. فالغربة مظاهرها واحدة، لكن شتان بين الغرباء. إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغرباء قال: (هم الذين يُصلحون إذا فسد الناس) وضبطها بعضهم (هم الذين يَصلحون إذا فسد الناس). كان أهل الإسلام بالنسبة لأهل الأديان غرباء، واليوم صار أهل السنة بالنسبة لأهل البدعة غرباء، لم يكن في مكة إلا كفر وإسلام، ولم يكن النفاق قد ظهر بعد، متى تعرف أن الإسلام صار له شوكة، وأنه ساد؟ إذا رأيت النفاق فاعلم أن للإسلام عزة، لكن إذا رأيت الكفر فاعلم أن الإسلام ضائع؛ لأن الكفر لا يظهر ولا يشرئب عنقه إلا في غياب الإسلام والسلطان الشرعي، فإذا عز الإسلام ظهر النفاق. ولذلك لم يظهر النفاق في مكة، لم يكن ثم إلا كفر وإيمان، إنما ظهر النفاق في المدينة بعدما عز الإسلام وصارت له دولة؛ فلم يزل يعامل المنافق على الظاهر، والمنافق يريد أن يحفظ دمه، ويحفظ ماله، فيظهر الإسلام ويبطن الكفر، وليس لنا إلا الحكم بالظاهر. أحد القضاة الذين أخذوا على أنفسهم أنهم لا يقضون في الحدود إلا بما شرع الله ورسوله، كان إذا جاءه زانٍ محصن حكم عليه بالرجم، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، في كتاب الله تبارك وتعالى، لكن آية الرجم نسخت، والنسخ -هو: رفع الحكم المتقدم- عند العلماء على نوعين: الأول: رفع النص مع بقاء الحكم، والثاني: بقاء النص مع رفع الحكم. فمن النوع الأول: آية الرجم. ثبت في مستدرك الحاكم -وأصله في صحيح البخاري - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( كنا نقرأ فيما نقرأ من القرآن (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة، بما حظيا من اللذة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فهذه آية كانوا يقرءونها في القرآن الكريم، ثم رفعت الآية وبقي حكمها، وعلى هذا جميع أهل الإسلام، إلا من شذ من أهل البدعة، وأجمع جمهور الأصوليون على ذلك. ومن النوع الثاني: يبقى النص ويرفع الحكم كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] فهذه الآية فيها إظهار لفائدة الخمر؛ لكنها لا تساوي شيئاً بجانب الضرر، فلا يجوز لأحد أن يحتج بهذه الآية ويقول: أنا سأشرب الخمر للفائدة التي فيها؛ لأنها نسخت بآية المائدة. فهذا القاضي جاءه مرة رجل زان، وكان المحامي الذي يدافع عنه حتى يخرجه ويحقق له البراءة يتمنى أن يحكم في القضية هذا القاضي؛ لأنه يعلم أنه إذا حكمت المحكمة عليه بالرجم -ولا أحد يطبق عليه حد الرجم- فمعنى حكمه هذا أنه سيخرج من السجن، فإذا حكمت المحكمة على فلان بالرجم، أي: بالقتل، مع عدم وجود سلطان شرعي يقيم حد الله تبارك وتعالى ويحفظ حدوده، فإن هذا الحكم بالموت يساوي البراءة في هذه الأزمان؛ لأننا نعيش غربة ثانية للدين. فلما أعلن القاضي حكمه، والذي يقضي عليه بالرجم. ضجت القاعة بالتصفيق، وعانقوا المجرم الأثيم.. لماذا؟ لأنه لا يوجد من يطبق حد الرجم، ولو حكم عليه بالسجن لسجن؛ لكنه لا يريد أن يبدل حكم الله، وهو إذا حكم بحكم الله كان الحكم بمثابة البراءة لهذا المجرم. يا للغربة! لا يوجد سلطان يحمي حدود الله في الأرض، من سب الله سجن ستة أشهر، ولم ينفذ هذا القانون ساعة، ولو سب الذات الملكية يسجن في الحال دون محاكمة. ......
الاغتراب عن الأوطان من أصعب ما يعايشه المرء في حياته، فإنه يكاد يجد له صاحباً، ولا يركن إلى أنيس. ورغم قسوة هذه الغربة إلا أن غربة الدين أشد قسوة، فما بالك برجل غريب بين أهله لا يكاد يجد منهم موافقاً، ولا في طلب الحق مرافقاً، فليت شعري أي غربة يعيشها الدين وأهله في هذا الزمان. لكن على غريب الدين أن يتأسى بمن سبقوه في الغربة الأولى؛ ليتخذ من سبيلهم طريقاً ومنهجاً، ويجعل من سيرتهم معيناً ومنهلاً.
غربة الدين في انطلاقته الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه، عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وبلال وجابر ، وجماعة من الصحابة تجاوزت عدتهم خمسة عشر صحابياً، فهو من الأحاديث المتواترة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن غربة المسلم تتجدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل وانقطاع، وقد عمت الأرض الوثنية والشرك، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد قال بعضهم لبعض: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7] . أقوام تعودوا على تعدد الآلهة، وعلى تعدد الأنداد لرب العالمين، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد، وهو أرفق وأوفق قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] وكالوا له ولأصحابه العذاب والتهم التي هم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده مع بعض المؤمنين به، قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام، جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: من أرسلك؟ قال: الله أرسلني. قلت: أرسلك بماذا؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان. قال: ومن معك؟ قال: حر وعبد) إشارة إلى أبي بكر وبلال ، والنبي صلى الله عليه وسلم الثالث، وعمرو بن عبسة هو الرابع، لذلك قال: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام). وقال سعد بن أبي وقاص كما في البخاري : ( لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام ) وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: ( لقد رأيتني مع النبي صلى الله عليه وسلم وامرأة وخمسة أعبد وأبي بكر ) . كان الإسلام يعاني من قلة الأتباع؛ لأن المجتمع الجاهلي الذي تسود فيه الوثنية لا يأذن لمثل هذه الدعوة أن تنتشر؛ لأن فيها دعوة إلى إزالة الفوارق، وأن يصير أبو جهل كعبده الذي يبيعه في الأسواق سلعة، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فكانوا يأنفون من ذلك، وكانوا إذا طافوا بالكعبة لا يأذنون للعبيد أن يطوفوا معهم، فكيف يقفون في صف واحد يدعون الله تبارك وتعالى، وما منعهم من قبول الإسلام إلا الكبر. بدأ الإسلام غريباً في أهل الجاهلية، والذي يتأمل غربة الأصحاب الأوائل يرى أن غربتنا في هذه الأزمان هي ذات الغربة، ولكن هناك فرق بين الغرباء، فالغرباء الأوائل كانوا يستعلون بإيمانهم؛ لذلك لم يبالوا بالعذاب، فلم يفتنهم، وكانوا يحتسبون العذاب في الله تبارك وتعالى، بخلاف المتأخرين من الغرباء، فإن إيمانهم هش ضعيف، لذا فإنهم يفتتنون عندما ينزل بهم العذاب، وتسود وجوههم كما يسود المعدن غير الأصيل إذا تعرض للنار. فالغربة مظاهرها واحدة، لكن شتان بين الغرباء. إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغرباء قال: (هم الذين يُصلحون إذا فسد الناس) وضبطها بعضهم (هم الذين يَصلحون إذا فسد الناس). كان أهل الإسلام بالنسبة لأهل الأديان غرباء، واليوم صار أهل السنة بالنسبة لأهل البدعة غرباء، لم يكن في مكة إلا كفر وإسلام، ولم يكن النفاق قد ظهر بعد، متى تعرف أن الإسلام صار له شوكة، وأنه ساد؟ إذا رأيت النفاق فاعلم أن للإسلام عزة، لكن إذا رأيت الكفر فاعلم أن الإسلام ضائع؛ لأن الكفر لا يظهر ولا يشرئب عنقه إلا في غياب الإسلام والسلطان الشرعي، فإذا عز الإسلام ظهر النفاق. ولذلك لم يظهر النفاق في مكة، لم يكن ثم إلا كفر وإيمان، إنما ظهر النفاق في المدينة بعدما عز الإسلام وصارت له دولة؛ فلم يزل يعامل المنافق على الظاهر، والمنافق يريد أن يحفظ دمه، ويحفظ ماله، فيظهر الإسلام ويبطن الكفر، وليس لنا إلا الحكم بالظاهر. أحد القضاة الذين أخذوا على أنفسهم أنهم لا يقضون في الحدود إلا بما شرع الله ورسوله، كان إذا جاءه زانٍ محصن حكم عليه بالرجم، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، في كتاب الله تبارك وتعالى، لكن آية الرجم نسخت، والنسخ -هو: رفع الحكم المتقدم- عند العلماء على نوعين: الأول: رفع النص مع بقاء الحكم، والثاني: بقاء النص مع رفع الحكم. فمن النوع الأول: آية الرجم. ثبت في مستدرك الحاكم -وأصله في صحيح البخاري - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( كنا نقرأ فيما نقرأ من القرآن (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة، بما حظيا من اللذة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فهذه آية كانوا يقرءونها في القرآن الكريم، ثم رفعت الآية وبقي حكمها، وعلى هذا جميع أهل الإسلام، إلا من شذ من أهل البدعة، وأجمع جمهور الأصوليون على ذلك. ومن النوع الثاني: يبقى النص ويرفع الحكم كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] فهذه الآية فيها إظهار لفائدة الخمر؛ لكنها لا تساوي شيئاً بجانب الضرر، فلا يجوز لأحد أن يحتج بهذه الآية ويقول: أنا سأشرب الخمر للفائدة التي فيها؛ لأنها نسخت بآية المائدة. فهذا القاضي جاءه مرة رجل زان، وكان المحامي الذي يدافع عنه حتى يخرجه ويحقق له البراءة يتمنى أن يحكم في القضية هذا القاضي؛ لأنه يعلم أنه إذا حكمت المحكمة عليه بالرجم -ولا أحد يطبق عليه حد الرجم- فمعنى حكمه هذا أنه سيخرج من السجن، فإذا حكمت المحكمة على فلان بالرجم، أي: بالقتل، مع عدم وجود سلطان شرعي يقيم حد الله تبارك وتعالى ويحفظ حدوده، فإن هذا الحكم بالموت يساوي البراءة في هذه الأزمان؛ لأننا نعيش غربة ثانية للدين. فلما أعلن القاضي حكمه، والذي يقضي عليه بالرجم. ضجت القاعة بالتصفيق، وعانقوا المجرم الأثيم.. لماذا؟ لأنه لا يوجد من يطبق حد الرجم، ولو حكم عليه بالسجن لسجن؛ لكنه لا يريد أن يبدل حكم الله، وهو إذا حكم بحكم الله كان الحكم بمثابة البراءة لهذا المجرم. يا للغربة! لا يوجد سلطان يحمي حدود الله في الأرض، من سب الله سجن ستة أشهر، ولم ينفذ هذا القانون ساعة، ولو سب الذات الملكية يسجن في الحال دون محاكمة. ......