التعزية
111 - وتشرع تعزية أهل الميت1 ، وفيه حديثان :
الاول : عن قرة آلمزني رضي الله عنه قال : " كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس ، يجلس إليه نفر من أصحابه ، وفيهم رجل له ابن صغير ، يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه ، ( فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : تحبه ؟ فقال : يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ) ، فهلك ، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة ، لذكر ابنه ، فحزن عليه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : مالي لا أري فلانا ؟ فقالوا : يا رسول الله بنية الذي رأيته هلك ، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم : فسأله عن بنيه ؟ فأخبره بأنه هلك ، فعزاه عليه ، ثم قال يا فلان ؟ أيما كان أحب إليك : أن تمتع به عمرك ، أو لا تأتي غدا إلى باب من أبواب الجنة إلى وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ قال : يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها إلى ، لهو أحب إلى ، قال : فذلك لك ، ( فقال رجل ( من الانصار ) : يا رسول الله ( جعلني الله فداءك ة أله خاصة أو لكلنا ؟ قال : بل لكلكم ) " . أخرجه النسائي ( 1/296 ) والسياق له ، وابن حبان في " صحيحه " ، والحاكم ( 1/384 ) وأحمد ( 5/35 ) وقال الحاكم : " صحيح الاسناد " ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا .
وأخرج النسائي أيضا ( 1/264 ) نحوه ، وكذا البيهقي ( 4/59و60 ) إلا أنه لم يسبق أوله بتمامه ، وعنده الزيادات كلها إلى الاولى . وللحديث شاهد في " المجمع " ( 3/10 ) .
الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عزي أخاه المؤمن في مصبته كساه الله حلة خضراء يجبرها بها يوم القيامة ، قيل : يا رسول الله ما يجبر ؟ قال : يغبط " . أخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " ( 7/397 ) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " ( 15/91/1 ) . وله شاهد عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مقطوعا .
أخرجه ابن أبي سيبة في " المصنف " ( 4/164 ) ، وهو حديث حسن بمجموع الطريقين كما بيته في " إرواء الغليل في تخريج احاديث منار السبيل " رقم ( 756 ) .
واعلم أن الاستدلال بهذين الحديثين - لا سيما الاول منهما - على التعزية أولى من الاستدلال عليها بحديث : " من عزى مصابا فله مثل أجره " ، وإن جرى عليه جماهير المصنفين ، لانه حديث ضعيف من جميع طرقه كما بينه النووي في " المجموع " ( 5/305 ) والعسقلاني في " التلخيص " ( 5/251 ) وفي " إرواء الغليل " ( رقم757 ) .
112 - ويعزيهم بما يظن أنه يسليهم ، ويكف من حزنهم ، ويحملهم على الرضا والصبر ، مما يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، إن كان يعلمه ويستحضره ، وإلا فبما تيسر له من الكلام الحسن الذي يحقق الغرض ولا يخالف الشرع ، وفي ذلك أحاديث :
الاول : عن أسامة بن زيد قال : " أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ، بناته : أن صبيا لها ، أبنا أو ابنة ، ( وفي رواية : أميمة بنت زينب ) 2قد احتضرت ، فاشهدنا ، قال فأرسل إليها يقرأها السلام ويقول : " إن لله ما أخذ ، و( لله ) ما أعطي ، وكل شئ عنده إلى أجل مسمى فالتصبر ، ولتحتسب " .
فأرسلت تقسم عليه ( ليأتينها ) ، فقام ، وقمنا ، فرفع الصبي إلى حجر - أو في حجر - رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونفسه تقعقع ( كأنها في شنة ) وفي القوم سعد بن عبادة ، ( ومعاذ بن جبل : ) وأبي ( بن كعب ) أحسب ( وزيد بن ثابت ، ورجال ) ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله ( وقد نهيت عن البكاء ) ؟ قال : ( إنما ) هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " . أخرجه البخاري ( 3/120 - 122 ) ومسلم ( 3/39 ) وأبو داود ( 2/58 ) والنسائي ( 1/263 ) وابن ماجه ( 1/280 ) والبيهقي ( 4/65 - 68 - 69 ) وأحمد ( 5/204 - 206 - 207 ) والسياق له وكذا الرواية الثانية ، والزيادة الاولى والسابعة والثامنة ، وهي جميعا عند البيهقي ، والزيادة الثانية للشيخين والنسائي والبيهقي والثالثة لهم ، وكذا الرابعة والخامسة جميعا إلا مسلما ، والسادسة للبخاري والنسائي .
قلت : وهذه الصيغة من التعزية وإن وردت فيمن شارف الموت فالتعزية بها فيمن قد مات أولى بدلالة النص ، ولهذا قال النووي في " الاذكار " وغيره : " وهذا الحديث أحسن ما يعزي به " .
الثاني : عن بريدة بن الحصيب قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الانصار ، ويعودهم ، ويسأل عنهم ، فبلغه عن امرأة من الانصار مات ابنها وليس لها غيره وأنها جزعت عليه جزعا شديدا ، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ( ومعه أصحابه ، فلما بلغ باب المرإة ، قيل للمرأة : إن نبي الله يريد أن يدخل ، يعزيها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك ، فأمرها بتقوى الله وبالصبر ، فقالت : يا رسول الله ( مالي لا أجزع و) أني امرأة رقوب لا ألاد ، ولم يكن لي غيره ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرقوب : الذي يبقى ولدها ، ثم قال : مامن امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد [ يحتسبهم ] إلا أدخله الله : بهم الجنة ، فقال عمر [ وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ] : بأبي أنت وأمي واثنين ؟ قال : وأثنين ) . أخرجه الحاكم ( 1/384 ) وقال : ( صحيح الاسناد ) ، ووافقه الذهبي .
قالت : بل هو على شرط مسلم فان رجاله كلهم رجال صحيحه ، لكن أحدهم فيه ضعف من قبل حفظه . لكن لا ينزل حديثه هذا عن رتبه الحسن .
والحديث أورده الهيثمي في ( المجمع ) ( 3/8 ) بنحوه والزيادات منه وقال : ( رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ) .
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم حينما دخل على أم سلمة رضي الله عنها عقب موت أبي سلمة : ( اللهم اغفر لابي سلمة ، وارفع درجته في المهديين ، واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يا رب العالمين ، وافسح له في قبره ، ونور له فيه ) أخرجه مسلم وغيره ، وقد مضى بتمامه في المسألة ( 17 ) ( ص 12 ) .
الرابع : قوله صلى الله عليه وسلم في تعزيته عبد الله بن جعفر في أبيه : ( اللهم اخلف جعفرا في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ، قالها ثلاث مرات ) . أخرجه أحمد بسند صحيح في أثناء حديث يأتي بتمامه في المسألة التالية3 .
113 - ولا تحد التعزية بثلاثة أيام لا يتجاوزها ، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزى بعد الثلاثة في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله ثعالى عنهما قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال : فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر ، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة ، فلقوا العدو ، فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل ، ثم أخدها عبد الله فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه ، وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن اخوانكم لقوا العدو ، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل واستشهد ، ثم . . . ثم . . . ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه ، فأمهل ، ئم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ، ثم أتاهم فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، ادعوا لي ابني أخي ، قال : فجئ بنا كأنا أفرخ ، فقال : ادعو لي الحلاق ، فجيئ بالحلاق ، فحلق رؤوسنا ثم قال : أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب . وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي ، ثم أخذ بيدي فأشالها فقال : اللهم اخلف جعفرا في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ، قالها ثلاث مرات . قال : فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا ، وجعلت تفرح4 له ، فقال : العيلة تخافين عليهم وأما وليهم في الدنيا والاخرة ؟ ) . أخرجه أحمد ( رقم 1750 ) بإسناد صحيح على شرط مسلم ، ومن طريقة الحاكم ( 3/ 298 ) قطعة منه ، وروى أبو داود والنسائي منه قصة الامهال ثلاثا مع الحلق ، وتقدم بعضه في المسألة ( 18 ) ( ص21 ) ، وقال الحاكم : ( صحيح الاسناد ) ، ووافقه الذهبي .
وللحديث شاهد ذكره في المسند ( 3/467 ) وفيه ضعف .
وقد ذهب إلى ما ذكرنا من أن التعزية لا تحد بحد جماعة من أصحاب الامام أحمد كما في ( الانصاف ) ( 2/ 564 ) وهو وجه في المذهب الشافعي ، قالوا : لان الغرض الدعاء والحمل على الصبر والنهي عن الجزع ، وذلك يحصل مع طول الزمان . حكاه إمام الحرمين وبه قطع أبو العباس ابن القاص من أئمتهم ، وإن أنكره عليه بعضهم فإنما ذلك من طريق المعروف من المذهب لا الدليل . انظر ( المجموع ) ( 5/306 ) .
114 - وينبغي اجتناب أمرين وإن تتابع الناس عليهما :
أ - الاجتماع للتعزية في مكان خاص كالدار أو المقبرة أو المسجد .
ب - اتخاذ أهل ، الميت الطعام لضيافة الواردين للعزاء .
وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلى رضي الله عنه قال : ( كنا نعد ( وفي رواية : نرى ) 5 الاجتماع إلى أهل الميت ، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة ) . أخرجه أحمد ( رقم 6905 ) وابن ماجه ( 1/490 ) والرواية الاخرى له وإسناده صحيح على شرط الشيخين في ، وصححه النووي ( 5/320 ) والبوصيري في ( الزوائد )
115 - وإنما السنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لاهل الميت طعاما يشبعهم ، لحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : ( لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم : اصنعوا لال جعفر طعاما ، فقد أتاهم أمر يشغلهم ، أو أتاهم ما يشغلهم ) . أخرجه أبو داود ( 2/59 ) والترمذي ( 2/134 ) وحسنه وابن ماجه ( 1/490 ) ، وكذا الشافعي في ( الام ) ( 1/ 247 ) والدار قطني ( 194 ، 197 ) والحاكم ( 1/372 ) والبيهقي ( 4/61 ) وأحمد ( 1/175 ) وقال الحاكم : ( صحيح الاسناد ) . ووافقه الذهبي .
وصححه ابن السكن أيضا ، كما في ( التلخيص ) ( 5/253 ) ، وهو عندي حديث حسن كما قال الترمذي ، فإن له شاهدا من حديث أسماء بنت عميس ، وقد بينت ذلك في ( التعليقات الجياد ) .
وقد ( كانت عائشة تأمر بالتلبين للمريض ، وللمحزون على الهالك ، وتقول : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن التلبينة تجم6فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن ) . أخرجه البخاري ( 10/119 - 120 ) واللفظ له ومسلم ( 7/26 ) والبيهقي ( 4/61 ) وأحمد ( 6/155 ) 7 .
116 - ويستحب مسح رأس اليتيم وإكرامه ، لحديث عبد الله بن جعفر قال : ( لو رأيتني وقثم وعبيد الله بن عباس ونحن صبيان نلعب ، إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال : إرفعوا هذا إلي ، قال فحملني أمامه ، وقال : لقثم : ارفعوا هذا إلي ، فحمله وراءه ، وكان عبيد الله أحب ألى عباس من قثم ، فما استحى من عمه أن حمل قثما وتركه ، قال : ثم مسح على رأسي ثلاثا ، وقال كلما مسح : اللهم اخلف جعفرا في ولده ، قال : قلت لعبد الله : ما فعل قثم ؟ قال ، : استشهد ، قال : قلت : الله أعلم ورسوله بالخير ، قال : أجل ) . أخرجه أحمد ( 1760 ) والسياق له والحاكم ( 1/372 ) والبيهقي ( 4/60 ) وإسناده حسن ، وقال الحاكم : ( صحيح ) ووافقه الذهبي .
***********
1 وهي الحمل على الصبر بوعد الاجر ، والدعاء للميت والمصاب .
2 قلت : ثم عاشت أميمة هذه ( ويقال : أمامة ) حتى تزوجها علي بعد فاطمة رضي الله عنهم .
3 وفي التعزية أحاديث أخرى ، ضربت صفحا عن ذكرها لضعفها ، وقد بينت ذلك في ( التعليقات الحياد ) منها حديث كتابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل يعزيه بوفاة ابن له وهو موضوع كما قال الذهبي والعسقلاني وغيرهما ، وذهل عن ذلك الشوكاني وتبعه صديق حسن خان فحسناه تبعا للحاكم فلا يغتر بذلك ، فإن لكل جواد كبوة بل ، كبوات .
4 أي تغمه وتحزنه من أفرحه إذا غمه وأزال عنه الفرح ، وأفرحه الدين أثقله .
5 قال النووي في ( المجموع ) ( 5 / 306 ) : ( وأما الجلوس للتعزية ، فنص الشافعي والمصنف وسائر الاصحاب على كراهته ، قالوا : يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية ، قالوا : بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم ، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها ) ونص الامام الشافعي الذي أشار إليه النووي هو في كتاب ( الام ) ( 1 / 248 ) : ( وأكره المآتم ، وهي الجماعة ، وإن لم يكن لهم بكاء ، فإن ذلك يجدد الحزن ، ويكلف المؤنة ، مع ما مضي فيه من الاثر ) . كأنه يشير إلى حديث جرير هذا ، قال النووي : ( واستدل له المصنف وغيره بدليل آخر وهو أنه محدث ) . وكذا نص ابن الهمام في شرح الهداية ( 1 / 473 ) على كراهة اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت وقال : ( وهي بدعة قبيحة ) . وهو مذهب الحنابلة كما في ( الانصاف ) ( 2 / 565 ) .
6 أي تريحه ، والتلبينة : حساء يعمل من دقيق أو نخالة ، وربما جعل فيها عسل .
7 قال الامام الشافعي في ( الام ) ( 1 / 247 ) : ( وأحب لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لاهل الميت في يوم يموت وليلته طعاما يشبعهم ، فإن ذلك سنة ، وذكر كريم . وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا ) . ثم ساق الحديث المذكور عن عبد الله بن جعفر .
111 - وتشرع تعزية أهل الميت1 ، وفيه حديثان :
الاول : عن قرة آلمزني رضي الله عنه قال : " كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس ، يجلس إليه نفر من أصحابه ، وفيهم رجل له ابن صغير ، يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه ، ( فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : تحبه ؟ فقال : يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ) ، فهلك ، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة ، لذكر ابنه ، فحزن عليه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : مالي لا أري فلانا ؟ فقالوا : يا رسول الله بنية الذي رأيته هلك ، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم : فسأله عن بنيه ؟ فأخبره بأنه هلك ، فعزاه عليه ، ثم قال يا فلان ؟ أيما كان أحب إليك : أن تمتع به عمرك ، أو لا تأتي غدا إلى باب من أبواب الجنة إلى وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟ قال : يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها إلى ، لهو أحب إلى ، قال : فذلك لك ، ( فقال رجل ( من الانصار ) : يا رسول الله ( جعلني الله فداءك ة أله خاصة أو لكلنا ؟ قال : بل لكلكم ) " . أخرجه النسائي ( 1/296 ) والسياق له ، وابن حبان في " صحيحه " ، والحاكم ( 1/384 ) وأحمد ( 5/35 ) وقال الحاكم : " صحيح الاسناد " ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا .
وأخرج النسائي أيضا ( 1/264 ) نحوه ، وكذا البيهقي ( 4/59و60 ) إلا أنه لم يسبق أوله بتمامه ، وعنده الزيادات كلها إلى الاولى . وللحديث شاهد في " المجمع " ( 3/10 ) .
الثاني : عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عزي أخاه المؤمن في مصبته كساه الله حلة خضراء يجبرها بها يوم القيامة ، قيل : يا رسول الله ما يجبر ؟ قال : يغبط " . أخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " ( 7/397 ) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " ( 15/91/1 ) . وله شاهد عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مقطوعا .
أخرجه ابن أبي سيبة في " المصنف " ( 4/164 ) ، وهو حديث حسن بمجموع الطريقين كما بيته في " إرواء الغليل في تخريج احاديث منار السبيل " رقم ( 756 ) .
واعلم أن الاستدلال بهذين الحديثين - لا سيما الاول منهما - على التعزية أولى من الاستدلال عليها بحديث : " من عزى مصابا فله مثل أجره " ، وإن جرى عليه جماهير المصنفين ، لانه حديث ضعيف من جميع طرقه كما بينه النووي في " المجموع " ( 5/305 ) والعسقلاني في " التلخيص " ( 5/251 ) وفي " إرواء الغليل " ( رقم757 ) .
112 - ويعزيهم بما يظن أنه يسليهم ، ويكف من حزنهم ، ويحملهم على الرضا والصبر ، مما يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، إن كان يعلمه ويستحضره ، وإلا فبما تيسر له من الكلام الحسن الذي يحقق الغرض ولا يخالف الشرع ، وفي ذلك أحاديث :
الاول : عن أسامة بن زيد قال : " أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ، بناته : أن صبيا لها ، أبنا أو ابنة ، ( وفي رواية : أميمة بنت زينب ) 2قد احتضرت ، فاشهدنا ، قال فأرسل إليها يقرأها السلام ويقول : " إن لله ما أخذ ، و( لله ) ما أعطي ، وكل شئ عنده إلى أجل مسمى فالتصبر ، ولتحتسب " .
فأرسلت تقسم عليه ( ليأتينها ) ، فقام ، وقمنا ، فرفع الصبي إلى حجر - أو في حجر - رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونفسه تقعقع ( كأنها في شنة ) وفي القوم سعد بن عبادة ، ( ومعاذ بن جبل : ) وأبي ( بن كعب ) أحسب ( وزيد بن ثابت ، ورجال ) ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله ( وقد نهيت عن البكاء ) ؟ قال : ( إنما ) هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " . أخرجه البخاري ( 3/120 - 122 ) ومسلم ( 3/39 ) وأبو داود ( 2/58 ) والنسائي ( 1/263 ) وابن ماجه ( 1/280 ) والبيهقي ( 4/65 - 68 - 69 ) وأحمد ( 5/204 - 206 - 207 ) والسياق له وكذا الرواية الثانية ، والزيادة الاولى والسابعة والثامنة ، وهي جميعا عند البيهقي ، والزيادة الثانية للشيخين والنسائي والبيهقي والثالثة لهم ، وكذا الرابعة والخامسة جميعا إلا مسلما ، والسادسة للبخاري والنسائي .
قلت : وهذه الصيغة من التعزية وإن وردت فيمن شارف الموت فالتعزية بها فيمن قد مات أولى بدلالة النص ، ولهذا قال النووي في " الاذكار " وغيره : " وهذا الحديث أحسن ما يعزي به " .
الثاني : عن بريدة بن الحصيب قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الانصار ، ويعودهم ، ويسأل عنهم ، فبلغه عن امرأة من الانصار مات ابنها وليس لها غيره وأنها جزعت عليه جزعا شديدا ، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ( ومعه أصحابه ، فلما بلغ باب المرإة ، قيل للمرأة : إن نبي الله يريد أن يدخل ، يعزيها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك ، فأمرها بتقوى الله وبالصبر ، فقالت : يا رسول الله ( مالي لا أجزع و) أني امرأة رقوب لا ألاد ، ولم يكن لي غيره ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرقوب : الذي يبقى ولدها ، ثم قال : مامن امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد [ يحتسبهم ] إلا أدخله الله : بهم الجنة ، فقال عمر [ وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ] : بأبي أنت وأمي واثنين ؟ قال : وأثنين ) . أخرجه الحاكم ( 1/384 ) وقال : ( صحيح الاسناد ) ، ووافقه الذهبي .
قالت : بل هو على شرط مسلم فان رجاله كلهم رجال صحيحه ، لكن أحدهم فيه ضعف من قبل حفظه . لكن لا ينزل حديثه هذا عن رتبه الحسن .
والحديث أورده الهيثمي في ( المجمع ) ( 3/8 ) بنحوه والزيادات منه وقال : ( رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ) .
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم حينما دخل على أم سلمة رضي الله عنها عقب موت أبي سلمة : ( اللهم اغفر لابي سلمة ، وارفع درجته في المهديين ، واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يا رب العالمين ، وافسح له في قبره ، ونور له فيه ) أخرجه مسلم وغيره ، وقد مضى بتمامه في المسألة ( 17 ) ( ص 12 ) .
الرابع : قوله صلى الله عليه وسلم في تعزيته عبد الله بن جعفر في أبيه : ( اللهم اخلف جعفرا في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ، قالها ثلاث مرات ) . أخرجه أحمد بسند صحيح في أثناء حديث يأتي بتمامه في المسألة التالية3 .
113 - ولا تحد التعزية بثلاثة أيام لا يتجاوزها ، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزى بعد الثلاثة في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله ثعالى عنهما قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة وقال : فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر ، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة ، فلقوا العدو ، فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل ، ثم أخدها عبد الله فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه ، وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن اخوانكم لقوا العدو ، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل واستشهد ، ثم . . . ثم . . . ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه ، فأمهل ، ئم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ، ثم أتاهم فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، ادعوا لي ابني أخي ، قال : فجئ بنا كأنا أفرخ ، فقال : ادعو لي الحلاق ، فجيئ بالحلاق ، فحلق رؤوسنا ثم قال : أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب . وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي ، ثم أخذ بيدي فأشالها فقال : اللهم اخلف جعفرا في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ، قالها ثلاث مرات . قال : فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا ، وجعلت تفرح4 له ، فقال : العيلة تخافين عليهم وأما وليهم في الدنيا والاخرة ؟ ) . أخرجه أحمد ( رقم 1750 ) بإسناد صحيح على شرط مسلم ، ومن طريقة الحاكم ( 3/ 298 ) قطعة منه ، وروى أبو داود والنسائي منه قصة الامهال ثلاثا مع الحلق ، وتقدم بعضه في المسألة ( 18 ) ( ص21 ) ، وقال الحاكم : ( صحيح الاسناد ) ، ووافقه الذهبي .
وللحديث شاهد ذكره في المسند ( 3/467 ) وفيه ضعف .
وقد ذهب إلى ما ذكرنا من أن التعزية لا تحد بحد جماعة من أصحاب الامام أحمد كما في ( الانصاف ) ( 2/ 564 ) وهو وجه في المذهب الشافعي ، قالوا : لان الغرض الدعاء والحمل على الصبر والنهي عن الجزع ، وذلك يحصل مع طول الزمان . حكاه إمام الحرمين وبه قطع أبو العباس ابن القاص من أئمتهم ، وإن أنكره عليه بعضهم فإنما ذلك من طريق المعروف من المذهب لا الدليل . انظر ( المجموع ) ( 5/306 ) .
114 - وينبغي اجتناب أمرين وإن تتابع الناس عليهما :
أ - الاجتماع للتعزية في مكان خاص كالدار أو المقبرة أو المسجد .
ب - اتخاذ أهل ، الميت الطعام لضيافة الواردين للعزاء .
وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلى رضي الله عنه قال : ( كنا نعد ( وفي رواية : نرى ) 5 الاجتماع إلى أهل الميت ، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة ) . أخرجه أحمد ( رقم 6905 ) وابن ماجه ( 1/490 ) والرواية الاخرى له وإسناده صحيح على شرط الشيخين في ، وصححه النووي ( 5/320 ) والبوصيري في ( الزوائد )
115 - وإنما السنة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لاهل الميت طعاما يشبعهم ، لحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : ( لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم : اصنعوا لال جعفر طعاما ، فقد أتاهم أمر يشغلهم ، أو أتاهم ما يشغلهم ) . أخرجه أبو داود ( 2/59 ) والترمذي ( 2/134 ) وحسنه وابن ماجه ( 1/490 ) ، وكذا الشافعي في ( الام ) ( 1/ 247 ) والدار قطني ( 194 ، 197 ) والحاكم ( 1/372 ) والبيهقي ( 4/61 ) وأحمد ( 1/175 ) وقال الحاكم : ( صحيح الاسناد ) . ووافقه الذهبي .
وصححه ابن السكن أيضا ، كما في ( التلخيص ) ( 5/253 ) ، وهو عندي حديث حسن كما قال الترمذي ، فإن له شاهدا من حديث أسماء بنت عميس ، وقد بينت ذلك في ( التعليقات الجياد ) .
وقد ( كانت عائشة تأمر بالتلبين للمريض ، وللمحزون على الهالك ، وتقول : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن التلبينة تجم6فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن ) . أخرجه البخاري ( 10/119 - 120 ) واللفظ له ومسلم ( 7/26 ) والبيهقي ( 4/61 ) وأحمد ( 6/155 ) 7 .
116 - ويستحب مسح رأس اليتيم وإكرامه ، لحديث عبد الله بن جعفر قال : ( لو رأيتني وقثم وعبيد الله بن عباس ونحن صبيان نلعب ، إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال : إرفعوا هذا إلي ، قال فحملني أمامه ، وقال : لقثم : ارفعوا هذا إلي ، فحمله وراءه ، وكان عبيد الله أحب ألى عباس من قثم ، فما استحى من عمه أن حمل قثما وتركه ، قال : ثم مسح على رأسي ثلاثا ، وقال كلما مسح : اللهم اخلف جعفرا في ولده ، قال : قلت لعبد الله : ما فعل قثم ؟ قال ، : استشهد ، قال : قلت : الله أعلم ورسوله بالخير ، قال : أجل ) . أخرجه أحمد ( 1760 ) والسياق له والحاكم ( 1/372 ) والبيهقي ( 4/60 ) وإسناده حسن ، وقال الحاكم : ( صحيح ) ووافقه الذهبي .
***********
1 وهي الحمل على الصبر بوعد الاجر ، والدعاء للميت والمصاب .
2 قلت : ثم عاشت أميمة هذه ( ويقال : أمامة ) حتى تزوجها علي بعد فاطمة رضي الله عنهم .
3 وفي التعزية أحاديث أخرى ، ضربت صفحا عن ذكرها لضعفها ، وقد بينت ذلك في ( التعليقات الحياد ) منها حديث كتابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل يعزيه بوفاة ابن له وهو موضوع كما قال الذهبي والعسقلاني وغيرهما ، وذهل عن ذلك الشوكاني وتبعه صديق حسن خان فحسناه تبعا للحاكم فلا يغتر بذلك ، فإن لكل جواد كبوة بل ، كبوات .
4 أي تغمه وتحزنه من أفرحه إذا غمه وأزال عنه الفرح ، وأفرحه الدين أثقله .
5 قال النووي في ( المجموع ) ( 5 / 306 ) : ( وأما الجلوس للتعزية ، فنص الشافعي والمصنف وسائر الاصحاب على كراهته ، قالوا : يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية ، قالوا : بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزاهم ، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها ) ونص الامام الشافعي الذي أشار إليه النووي هو في كتاب ( الام ) ( 1 / 248 ) : ( وأكره المآتم ، وهي الجماعة ، وإن لم يكن لهم بكاء ، فإن ذلك يجدد الحزن ، ويكلف المؤنة ، مع ما مضي فيه من الاثر ) . كأنه يشير إلى حديث جرير هذا ، قال النووي : ( واستدل له المصنف وغيره بدليل آخر وهو أنه محدث ) . وكذا نص ابن الهمام في شرح الهداية ( 1 / 473 ) على كراهة اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت وقال : ( وهي بدعة قبيحة ) . وهو مذهب الحنابلة كما في ( الانصاف ) ( 2 / 565 ) .
6 أي تريحه ، والتلبينة : حساء يعمل من دقيق أو نخالة ، وربما جعل فيها عسل .
7 قال الامام الشافعي في ( الام ) ( 1 / 247 ) : ( وأحب لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لاهل الميت في يوم يموت وليلته طعاما يشبعهم ، فإن ذلك سنة ، وذكر كريم . وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا ) . ثم ساق الحديث المذكور عن عبد الله بن جعفر .