ما ينتفع به الميت
117 - وينتفع ، الميت من عمل غيره بأمور :
أولا : دعاء المسلم له ، إذا توفرت فيه شروط القبول ، لقول الله تبارك وتعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنو ربنا إنك رؤوف رحيم } . [ سورة الحشر 10 ] .
وأما الاحاديث فهي كثيرة جدا ، وقد سبق بعضها ، ويأتي بعضها في زيارة القبور ، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، وأمره بذلك . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ( دعوة المرء المسلم لاخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل ، كلما دعا لاخيه بخير ، قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل ) . أخرجه مسلم ( 8/86 ، 87 ) والسياق له ، وأبو داود ( 1/240 ) وأحمد ( 6/452 ) من حديث أبي الدرداء . : بل ، إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك ، لان غالبها دعاء للميت . واستغفار له ، كما تقدم بيانه .
ثانيا : قضاء ولي الميت صوم النذر عنه ، وفيه أحاديث :
الاول : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات وعليه صيام ، صام عنه وليه ) . أخرجه البخاري ( 4/156 ) ومسلم ( 3/155 ) وأبو داود ( 1/ 376 ) ، ومن طريقه البيهقي ( 6/279 ) والطحاوي في مشكل الاثار ( 3/140 ، 141 ) وأحمد ( 6/69 ) .
الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنه : ( أن امرأة ركبت البحر فنذرت . إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرا ، فأنجاها الله عز وجل ، فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت قرابة لها [ إما أختها أو ابنتها ] إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : [ أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه ؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى ] ، [ فـ ] اقض [ عن أمك ] ) . أخرجه أبو داود ( 2/81 ) والنسائي ( 2/143 ) والطحاوي ( 3/140 ) والبيهقي ( 4/255 ، 256 ، 10/85 ) والطيالسي ( 2630 ) وأحمد ( 1861 ، 1970 ، 3137 ، 3224 ، 3420 ) والسياق مع الزيادة الثانية له ، وإسناده [ صحيح على شرط الشيخين ، والزيادة الاولى لابي داود والبيهقي .
وأخرجه البخاري ( 4/158 - 159 ) ومسلم ( 3/156 ) والترمذي ( 2/42 - 43 ) وصححه ، وابن ماجه ( 1/535 ) بنحوه ، وفيه عندهم جميعا الزيادة الثانية ، وعند مسلم الاخيرة .
الثالث : عنه أيضا . ( أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمي ماتت وعليها نذر ؟ فقال : اقضه عنها ) . أخرجه البخاري ( 5/400 ، 494 ) ومسلم ( 6/76 ) وأبو داود ( 2/81 ) والنسائي ( 2/130 ، 144 ) والترمذي ( 2/375 ) وصححه البيهقي ( 4/256 ، 6/ 278 ، 10/85 ) والطيالسي ( 2717 ) وأحمد ( 1893 ، 3049 ، 6/ 47 ) 1 .
ثالثا : قضاء الدين عنه من أي شخص وليا كان أو غيره ، وفيه أحاديث كثيرة سبق ذكر الكثير منها في المسألة ( 17 ) .
رابعا : ما يفعله الولد الصالح من الاعمال الصالحة ، فإن لوالديه مثل أجره ، دون أن ينقص من أجره شئ ، لان الولد من سعيهما وكسبهما ، والله عز وجل يقوله : { وأن ليس للانسان إلا ما سعى} ، وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه ) . أخرجه أبو داود ( 2/108 ) والنسائي ( 2/211 ) والترمذي ( 2/287 ) وحسنه ، والدارمي ( 2/247 ) وابن ماجه ( 2/2 - 430 ) والحاكم ( 2/46 ) والطيالسي ( 1580 ) وأحمد ( 6/41 ، 126 ، 127 ، 162 ، 173 ، 193 ، 201 ، 202 ، 220 ) وقال الحاكم : ( صحيج على شرط الشيخين ) ، ووافقه الذهبي ، وهو خطأ من وجوه لا يتسع المجال يانها :
وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو .
رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ( 2/179 ، 204 ، 214 ) بسند حسن .
ويؤيد ما دلت عليه الاية والحديث ، أحاديث خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل ولده الصالح كالصدقة والصيام والعتق ونحوه ، وهي هذه :
الاول : عن عائشة رضي الله عنها . ( أن رجلا قال : إن أمي افتلتت2نفسها [ ولم توص ] ، وأظنها لو تكلمت تصدقت ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها [ ولي أجر ] ؟ قال : نعم ، [ فتصدق عنها ] ) . أخرجه البخاري ( 3/198 ، 5/399 - 400 ) ومسلم ( 3/81 ، 5/73 ) ومالك في ( الموطأ ) ( 2/228 ) وأبو داود ( 2/15 ) والنسائي ( 2/129 ) وابن ماجه ( 2/160 ) والبيهقي ( 4/62 ، 6/277 - 278 ) وأحمد ( 6/51 ) .
والسياق للبخاري في إحدى روايتيه ، والزيادة الاخيرة له في الرواية الاخرى ، وابن ماجه ، وله الزيادة الثانية ، ولمسلم الاولى .
الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنه . ( أن سعد بن عبادة - أخا بني ساعدة - توفيت أمه وهو غائب عنها ، فقال : يا رسول الله إن أمي توفيت ، وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدقت بشئ عنها ؟ قال : نعم ، قال : فإني أشهدك أن حائط المخراف3صدقة عليها ) . أخرجه البخاري ( 5/297 ، 301 ، 307 ) وأبو داود ( 2/15 ) والنسائي ( 2/130 ) والترمذي ( 2/25 ) والبيهقي ( 6/278 ) وأحمد ( 3080 - 3504 - 3508 ) والسياق له
الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أنه رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه ؟ قال : نعم ) . أخرجه مسلم ( 5/73 ) والنسائي ( 2/129 ) وابن ماجه ( 2/160 ) والبيهقي ( 6/278 ) وأحمد ( 2/371 ) .
الرابع : عن عبد الله بن عمرو : ( أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة ، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة ، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية ، قال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة ، وإن هشاما أعتق عنه خمسين ، وبقيت عليه خمسون ، أفأعتق عنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه لو كان مسلما فأعتقتم أو تصدقتم عنه ، أو حججتم عنه بلغه ذلك ، ( وفي رواية ) : فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك ) 4 . ( أخرجه أبو داود في آخر ( الوصايا ) ( 2/15 ) والبيهقي ( 6/279 ) والسياق له ، وأحمد ( رقم 6704 ) والرواية الاخرى له ، وإسنادهم حسن .
خامسا : ما خلفه من يعده من آثار صالحة وصدقات جارية ، لقوله تبارك وتعالى : { ونكتب ما قدموا وآثارهم } ، وفيه أحاديث :
الاول : عن ابي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات الانسان انقطع عنه عمله5إلا من ثلاثة [ أشياء ] ، إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح6 يدعو له ) . أخرجه مسلم ( 5/73 ) والسياق له والبخاري في ( الادب المفرد ) ( ص 8 ) وأبو داود ( 2/15 ) والنسائي ( 2/129 ) والطحاوي في ( المشكل ) ( 1/85 ) والبيهقي ( 6/278 ) وأحمد ( 2/372 ) ، والزيادة لابي داود والبيهقي .
الثاني : عن أبي قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث : ولد صالح يدعو له ، وصدقة تجري يبلغه أجرها ، وعلم يعمل به من بعده ) . أخرجه ابن ماجه ( 1/106 ) وابن حبان في ( صحيحه ) ( رقم 84 ، 85 ) والطبراني في ( المعجم الصغير ) ( ص79 ) وابن عبد البر في ( جامع بيان العلم ) ( 1/15 ) وإسناده صحيح كما قال المنذري في ( الترغيب ) ( 1/58 )
الثالث : عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ، علما علمه ونشره . وولدا صالحا تركه ، ومصحفا ورثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته ) . أخرجه ابن ماجه ( 1/106 ) بإسناد حسن ، ورواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) أيضا والبيهقي كما قال المنذري .
الرابع : عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، فجاءه أقوام حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف ، [ وليس عليهم أزر ولا شئ غيرها ] عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعر ( وفي رواية : فتغير - ومعناهما واحد ) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ، ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن وصلى [ الظهر ، ثم صعد منبرا صغيرا ] ، ثم خطب [ فحمد الله وأثنى عليه ] فقال : [ أما بعد فإن الله أنزل في كتابه ] : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ، إن الله كان عليكم رقيبا } ، والاية التي في ( الحشر ) : { ويا أيها الذين آمنوا }اتقوا الله ولتنظر ننسى ما قدمت لغد واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون . { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون . لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون } . تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة ] ، تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، [ من شعيره ] ، من صاع تمره ، حتى قال : [ ولا يحقرن أحدكم شيئا من الصدقة ] ، ولو بشق تمرة ، [ فأبطؤوا حتى بان في وجهه الغضب ] ، قال : فجاء رجل من الانصار بصرة [ من ورق ( وفي رواية : من ذهب ) ] كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت [ فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره ] [ فقال : يا رسول الله هذه في سبيل الله ] ، [ فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ، [ قام أبو بكر فأعطى ، ثم قام عمر فأعطى ، ثم قام المهاجرون والانصار فأعطوا ] ، ثم تتابع الناس [ في الصدقات ] ، [ فمن ذي دينار ، ومن ذي درهم ، ومن ذي ، ومن ذي ] حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها ، و[ مثل ] أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ، ومن سن سنة في الاسلام سيئة كان عليه وزرها . و[ مثل ] وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ ، [ ثم تلى هذه الاية : { ونكتب ما قدموا وآثارهم} ] ، [ قال : فقسمه بينهم ] ) . أخرجه مسلم ( 3/88 ، 89 ، 8/61 ، 62 ) والنسائي ( 1/ 355 ، 356 ) والدارمي ( 1/126 ، 127 ) والطحاوي . في ( المشكل ) ( 1/93 ، 97 ) والبيهقي ( 4/175 ، 176 ) والطيالسي ( 670 ) وأحمد ( 4/357 ، 358 ، 359 ، 360 ، 361 ، 362 ) وابن أبي حاتم أيضا في ( تفسيره ) ، كما في ابن كثير ( 3/565 ) والزيادة التي قبل الاخيرة له ، وإسنادها صحيح ، وللترمذي ( 3/377 ) وصححه وابن ماجه ( 1/90 ) الجملتان اللتان قبل الزيادة المشار إليها مع الزيادتين فيهما .
وأما الزيادة الاولى فهي للبيهقي ، وما بعدها إلى الرابعة له ولمسلم ، والخامسه حتى الثامنة للبيهقي ، وعند الطيالسي الخامسة ، والتاسعة للدارمي وأحمد ، ولمسلم نحوها وكذا الطيالسي وأحمد أيضا ، والعاشرة والثانية عشر والخامسة عشر والتاسعة عشر للبيهقي ، والحادية عشر والسابعة عشر للطحاوي وأحمد ، والرابعة عشر للطيالسي ، والسادسة عشر والسابعة عشر لمسلم والترمذي وأحمد وغيرهم . والرواية الثانية للنسائي والبيهقي : والثالثة للطحاوي وأحمد
***********************
1 قلت : وهذه الاحاديث صريحة الدلالة في مشروعية صيام الولي عن الميت صوم النذر ، إلا أن الحديث الاول يدل بإطلاقه على شئ زائد على ذلك وهو أنه يصوم عنه صوم الفرض أيضا . وقد قال به الشافعية ، وهو مذهب ابن حزم ( 7 / 2 ، 8 ) وغيرهم . وذهب إلى الأول الحنابلة ، بل هو نص الامام أحمد ، فقال أبو داود في ( المسائل ) ( 96 ) : ( سمعت أحمد بن حنبل قال : لا يصام عن الميت إلا في النذر ) . وحمل أتباعه الحديث الاول على صوم النذر ، بدليل ما روت عمرة : أن أمها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة : أقضيه عنها ؟ قالت : لا بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين . أخرجه الطحاوي ( 3 / 142 ) وابن حزم ( 7 / 4 ) واللفظ له بإسناد قال ابن التركماني : ( صحيح ) وضعفه البيهقي ثم العسقلاني ، فإن كانا أرادا تضعيفه من هذا الوجه ، فلا وجه له ، وإن عنيا غيره ، فلا يضره ، وبدليل ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ( إذا مرض الرجل في رمضان ، ثم مات ولم يصم ، أطعم عنه وثم يكن عيه قضاء وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه ) . أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين ، وله طريق آخر بنحوه عند ابن حزم ( 7 / 7 ) وصحح إسناده . وله طريق ثالث عند الطحاوي ( 3 / 142 ) ، لكن الظاهر أنه سقط من متنة شئ من الناسخ أو الطابع ففسد المعنى . قلت : وهذا التفصيل الذي ذهبت إليه أم المؤمنين : وحبر الامة أبن عباس رضي الله عنهما وتابعهما إمام السنة أحمد بن حنبل هو الذي تطمئن إليه إلنفس ، وينشرح له الصدر ، وهو أعدل الاقوال في هذه المسألة وأوسطها وفيه إعمال لجميع الاحاديث دون رد لاي واحد منها ، مع الفهم الصحيح لها خاصة الحديث الاول منها ، فلم تفهم منه أم المؤمنين ذلك الاطلاق الشامل لصوم رمضان ، وهي راويته ، ومن المقرر أن رأوي الحديث أدرى بمعنى ما روى ، لا سيما إذا كان ما فهم هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها ، كما هو الشأن هنا ، وقد بين ذلك المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى ، فقال في ( إعلام الموقعين ) ( 3 / 554 ) بعد أن ذكر الحديث وصححه :
" فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه ، وقالت : يصام عنه النذر والفرض . وأبت طائفة ذلك وقالت : لا يصام عنه نذر ولا فرض ، وفصلت طائفة فقالت : يصام عنه النذر دون الفرض الاصلي . وهذا قول ابن عباس وأصحابه ، وهو الصحيح ، لان فرض الصيام جار مجرى الصلاة ، فكما لا يصلي أحد عن أحد ، ولا يسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام ، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين ، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه ، وهذا محض الفقه . وطرد هذا أنه لا يحج عنه ، ولا يزكي عنه إلا إذا كان معذورا بالتأخير كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر ، فأما المفر من غير عذر أصلا فلا ينفعه أداء غيره لفرائض الله التي فرط فيها ، وكان هو المأمور بها أبتلاء وامتحانا دون الولي ، فلا تنفع توبة أحد عن أحد ، ولا إسلامه عنه ، ولا أداء الصلاة عنه ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات " . قلت : : وقد زاد ابن القيم رحمه الله هذا البحث توضيحا وتحقيقا في ( تهذيب السنن ) ( 3 / 279 - 282 ) فليراجع فإنه مهم .
2 بضم المثناة وكسر اللام ، أي سلبت ، على ما لم يسم فاعله ، أي ماتت فجأة .
3 أي المثمر ، سمي بذلك لما يخرف منه أي يجي من الثمرة .
4 قال الشوكاني في ( نيل الاوطار ) ( 4 / 79 ) : ( وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما ، ويصل إليهما ثوابها ، فيخصص بهذه الاحاديث عموم قوله تعالى ( وأن ليس للانسان إلا ما سعى ) . ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد ، وقد ثبت أن ولد الانسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص ، وأما من غير الولد فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت ، فيوقف عليها ، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصحها ) . قلت : وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية ، أن الاية على عمومها وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد لانه من سعيه بخلاف غير الولد ، لكن قد نقل النووي وغيره الاجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصله ثوابها ، هكذا قالوا ( الميت ) فأطلقوه ولم يقيدوه بالوالد ، فإن صح هذا الاجماع كان مخصصا مومات
التي أشار إليها الشوكاني فيها يتعلق بالصدقة ، ويظل ما عداها داخلا في العموم كالصيام وقراءة القرآن ونحوهما من العبادات ، ولكنني في شك كبير من صحة الاجماع المذكور ، وذلك لامرين : الاول : أن الاجماع بالمعنى الاصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي علمت من الدين بالضرورة ، كما حقق ذلك العلماء الفحول ، كابن حزم في ( أصول الاحكام ) والشوكاني في ( إرشاد الفحول ) والاستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه ( أصول الفقه ) وغيرهم ، وقد أشار إلى ذلك الامام أحمد في كلمته المشهورة في الرد على من أدعى الاجماع - ورواها عنه أبنه عبد الله بن أحمد في ( المسائل ) . الثاني : أنني سيرت كثيرا من المسائل التي نقلوا الاجماع فيها ، فوجدت الخلاف فيها معروفا بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الاجماع فيها ، ولو شئت أن اورد الامثلة على ذلك لطال الكلام وخرجنا به عما نحن بصدده . فحسبنا الان أن نذكر بمثال واحد ، وهو نقل النووي الاجماع على أن صلاة الجنازة لا تكره في الاوقات المكروهة مع أن الخلاف فيها قديم معروف ، وأكثر أهل العلم على خلاف الاجماع المزعوم ، كما سبق تحقيقه في المسألة ( 87 ) ، ويأتي لك مثال آخر قريب إن شاء الله تعالى
وذهب بعضهم إلى قياس غير الوالد على الوالد ، وهو قياس باطل من وجوه : الاول : أنه مخالف العموميات القرآنية كقوله تعالى ( ومن تزكى فإنما يتزكي لنفسه ) وغيرها من الايات التي علقت الفلاح ودخول الجنة بالاعمال الصالحة ، ولا شك أن الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه على فكان له أجر ه بخلاف غيره . الثاني : أنه قياس مع الفارق إذا تذكرت إن الشرع جعل الولد من كسب الوالد كما سبق في حديث عائشة فليس هو كسبا لغيره ، والله عز وجل يقول : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ويقول ( لها ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت ) . وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله عز وحل ( وأن ليس للانسان إلا ما سعى ) : ( أي كما لا يحمل عليه وزر غيره ، كذلك لا يحصل من الاجر إلا ما كسب هو لنفسه . ومن هذه الاية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداه ثوابها إلى الموتى لانه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا ايماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الاقيسة والاراء ) وقال العز بن عبد السلام في ( الفتاوى ) ( 24 / 2 - عام 1692 ) : ( ومن فعل طاعة الله تعالى ، ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت ، لم ينتقل ثوابها إليه ، إذ ( ليس للانسان إلا ما سعى ) ، فإن شرع في الطاعة ناويا أن يقع عن الميت لم يقع عنه ، إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج ) . وما ذكره ابن كثير عن الشافعي رحمه الله تعالى هو قول أكثر العلماء وجماعة من ، الحنفية كما نقله الزبيدي في ( شرح الاحياء ) ( 10/ 369 ) . [ قلت : ومما بسق تعلم بطلان الاجماع الذي ذكره ابن قدامة في ( المغني ) ( 2 / 569 ) على وصول ثواب القراءة إلى الموتى ، وكيف لا يكون باطلا ، وفي مقدمة المخالفين الامام الشافعي رحمه الله تعالى . وهذا مثال آخر من أمثلة ما ادعى فيه الاجماع وهو غير صحيح ، وقد سبق التنبيه على هذا قريبا ]
الثالث : أن هذا القياس لو كان صحيحا ، لكان من مقتضاء استحباب إهداء الثواب إلى الموتى ولو كان كذلك لفعله السلف ، لانهم أحرس على الثواب منا بلا ريب ، ولم يفعلوا ذلك كما سبق في كلام ابن كثير ، فدل هذا على ان القياس المذكور غير صحيح ، وهو المراد . وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ( الاختيارات العلمية ) ( ص 54 ) : ( ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا ، أو قروؤا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين ، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل ) . وللشيخ رحمه الله تعالى قول آخر في المسألة ، خالف فيه ما ذكره آنفا عن السلف ، فذهب إلى أن الميت ينتفع بجميع العبادات من غيره . وتبنى هذا القول وانتصر له ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ( الروح ) بما لا يهض من القياس الذي سبق بيان بطلانه قريبا ، وذلك على خلاف ما عهدناه منه رحمه الله من ترك التوسع في القياس في الامور التعبدية المحضة لا سيما ما كان عنه على خلاف ما جرى عليه السلف الصالح رضي الله عنهم وقد أورد خلاصة كلامه العلامة السيد محمد رشيد رضا في ( تفسير المنار ) ( 8 / 254 - 270 ) ثم رد عليه ردا ا
قويا ، فليراجعه من شاء أن يتوسع في المسألة . . وقد استغل هذا القول كثير من المبتدعة ، واتخذوه ذريعة في محاربة السنة ، واحتجوا بالشيخ وتلميذه على أنصار السنة وأتباعها ، وجهل أولئك المبتدعة أو تجاهلوا أن أنصار السنة ، لا يقلدون في دين الله تعالى رجلا بعينة كما يفعل اولئك ولا يؤثرون على الحق الذى تبين لهم قول أحد من العلماء مهما كان اعتقادهم حسنا في علمه وصلاحه ، وأنهم إنما ينظرون إلى القول لا إلى القائل ، وإلى الدليل ، وليس إلى التقليد ، جاعلين نصب أعينهم قول امام دار الهجرة ( ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر ) وقال : ( كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ) . وإذا كان من المسلم به عند أهل العلم أن لكل عقيدة أو رأى يتبناه في هذه الحياة أثرا في سلوكه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فإن من المسلم به أيضا ، أن الاثر يدل على المؤثر ، وأن أحدهما مرتبط بالاخر ، خيرا أو شرا كما ذكرنا ، وعلى هذا فلسنا نشك أن لهذا القول أثرا سيئا في من يحمله أو يتبناه ، من ذلك مثلا أن صاحبه يتكل في تحصيل الثواب والدرجات العاليات على غيره ، لعلمه أن الناس يهدون الحسنات مئات المرات في اليوم الواحد إلى جميع المسلمين الاحياء منهم والاموات ، وهو واحد منهم ، فلماذا لا يستغني حينئذ بعمل غيره عن سعيه وكسبه . ألست ترى مثلا أن بعض المشايخ الذين يعيشون على كسب بعض تلامذتهم ، لا يسعون بأنفسهم ليحصلوا على قوت يومهم بعرق جبينهم وكد يمينهم . وما السبب في ذلك إلا أنهم استغنوا عن ذلك بكسب غيرهم فاعتمدوا عليه وتركوا العمل ، هذا أمر مشاهد في الماديات ، معقول في المعنويات كما هو الشأن في هذه المسألة . وليت أن ذلك وقف عندها ، ولم يتعدها إلى ما هو أخطر منها ، فهناك قول بجواز الحج عن الغير ولو كان غير معذور كأكثر الاغنياء التاركين للواجبات فهذا القول يحملهم على التساهل في الحج والتقاعس عنه ، لانه يتعلل به ويقول في باطنه : يحجون عني بعد موتي بل إن ثمة ما هو أضر من ذلك ، وهو القول بوجوب إسقاط الصلاة ، عن الميت التارك لها فإنه من العوامل الكبيرة على ترك بعض المسلمين للصلاة ، لانه يتعلل بأن الناس يسقطونها عنه بعد وفاته إلى غير ذلك من الاقوال التي لا يخفى سوء أثرها علي المجتمع ، فمن الواجب على العالم الذي يريد الاصلاح أن ينبذ هذه الاقوال لمخالفتها نصوص الشريعة ومقاصدها الحسنة . وقابل أثر هذه الاقوال بأثر قول الواقفين عند النصوص لا يخرجون عنها بتأويل أو قياس تجد الفرق كالشمس . فإن من لم يأخذ بمثل الاقوال المشار إليها لا يعقل أن يتكل على غيره في العمل والثواب ، لانه يرى أنه لا ينجيه إلا عمله ، ولا ثواب له إلا ما سعى إليه هو بنفسه ، بل المفروض فيه أن يسعى ما أمكنه إلى أن يخلف من بعده أثرا حسنا يأتيه أجره ، وهو وحيد في قبره ، بدل تلك الحسنات المرهومة ، وهذا من الأسباب الكثيرة في تقدم السلف وتأخرنا ، ونصر الله إياهم ، وخذلانه إيانا ، نسأل الله تعالى أن يهدينا كما هداهم ، وينصرنا كما نصرهم .
5 أي فائدة عمله وتجديد ثوابه ، قال الخطابى في ( المعالم ) : ( فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الابدان لا تجري فيها النيابة وقد يستدل ، به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة اللحاج دون المحجوج عنه ، وإنما يلحقه الدعاء ، ويكون له الاجر في المال الذي أعطى إن كان حج عنه بمال ) .
6 قيد بالصالح لان الاجر لا يحصل من غيره ، وأما الوزر فلا يلحق بالوالد من سيئة ولده إذا كان نيته في تحصيل الخير ، وإنما ذكر الدعاء له تحريضا على الدعاء لابيه ، لا لانه قيد ، لان الاجر يحصل للوالد من ولده الصالح ، كلها عمل عملا صالحا ، سواء أدعا لابيه أم لا ، كمن غرس شجرة يحصل له من أكل ثمرتها ثواب سواء أدعا له من أكلها أم لم يدع ، وكذلك الام . كذا في ( مبارق الازهار في شرح مشارق الانوار ) ابن الملك .
117 - وينتفع ، الميت من عمل غيره بأمور :
أولا : دعاء المسلم له ، إذا توفرت فيه شروط القبول ، لقول الله تبارك وتعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنو ربنا إنك رؤوف رحيم } . [ سورة الحشر 10 ] .
وأما الاحاديث فهي كثيرة جدا ، وقد سبق بعضها ، ويأتي بعضها في زيارة القبور ، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، وأمره بذلك . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ( دعوة المرء المسلم لاخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل ، كلما دعا لاخيه بخير ، قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل ) . أخرجه مسلم ( 8/86 ، 87 ) والسياق له ، وأبو داود ( 1/240 ) وأحمد ( 6/452 ) من حديث أبي الدرداء . : بل ، إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك ، لان غالبها دعاء للميت . واستغفار له ، كما تقدم بيانه .
ثانيا : قضاء ولي الميت صوم النذر عنه ، وفيه أحاديث :
الاول : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات وعليه صيام ، صام عنه وليه ) . أخرجه البخاري ( 4/156 ) ومسلم ( 3/155 ) وأبو داود ( 1/ 376 ) ، ومن طريقه البيهقي ( 6/279 ) والطحاوي في مشكل الاثار ( 3/140 ، 141 ) وأحمد ( 6/69 ) .
الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنه : ( أن امرأة ركبت البحر فنذرت . إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرا ، فأنجاها الله عز وجل ، فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت قرابة لها [ إما أختها أو ابنتها ] إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : [ أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه ؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى ] ، [ فـ ] اقض [ عن أمك ] ) . أخرجه أبو داود ( 2/81 ) والنسائي ( 2/143 ) والطحاوي ( 3/140 ) والبيهقي ( 4/255 ، 256 ، 10/85 ) والطيالسي ( 2630 ) وأحمد ( 1861 ، 1970 ، 3137 ، 3224 ، 3420 ) والسياق مع الزيادة الثانية له ، وإسناده [ صحيح على شرط الشيخين ، والزيادة الاولى لابي داود والبيهقي .
وأخرجه البخاري ( 4/158 - 159 ) ومسلم ( 3/156 ) والترمذي ( 2/42 - 43 ) وصححه ، وابن ماجه ( 1/535 ) بنحوه ، وفيه عندهم جميعا الزيادة الثانية ، وعند مسلم الاخيرة .
الثالث : عنه أيضا . ( أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمي ماتت وعليها نذر ؟ فقال : اقضه عنها ) . أخرجه البخاري ( 5/400 ، 494 ) ومسلم ( 6/76 ) وأبو داود ( 2/81 ) والنسائي ( 2/130 ، 144 ) والترمذي ( 2/375 ) وصححه البيهقي ( 4/256 ، 6/ 278 ، 10/85 ) والطيالسي ( 2717 ) وأحمد ( 1893 ، 3049 ، 6/ 47 ) 1 .
ثالثا : قضاء الدين عنه من أي شخص وليا كان أو غيره ، وفيه أحاديث كثيرة سبق ذكر الكثير منها في المسألة ( 17 ) .
رابعا : ما يفعله الولد الصالح من الاعمال الصالحة ، فإن لوالديه مثل أجره ، دون أن ينقص من أجره شئ ، لان الولد من سعيهما وكسبهما ، والله عز وجل يقوله : { وأن ليس للانسان إلا ما سعى} ، وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه ) . أخرجه أبو داود ( 2/108 ) والنسائي ( 2/211 ) والترمذي ( 2/287 ) وحسنه ، والدارمي ( 2/247 ) وابن ماجه ( 2/2 - 430 ) والحاكم ( 2/46 ) والطيالسي ( 1580 ) وأحمد ( 6/41 ، 126 ، 127 ، 162 ، 173 ، 193 ، 201 ، 202 ، 220 ) وقال الحاكم : ( صحيج على شرط الشيخين ) ، ووافقه الذهبي ، وهو خطأ من وجوه لا يتسع المجال يانها :
وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو .
رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ( 2/179 ، 204 ، 214 ) بسند حسن .
ويؤيد ما دلت عليه الاية والحديث ، أحاديث خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل ولده الصالح كالصدقة والصيام والعتق ونحوه ، وهي هذه :
الاول : عن عائشة رضي الله عنها . ( أن رجلا قال : إن أمي افتلتت2نفسها [ ولم توص ] ، وأظنها لو تكلمت تصدقت ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها [ ولي أجر ] ؟ قال : نعم ، [ فتصدق عنها ] ) . أخرجه البخاري ( 3/198 ، 5/399 - 400 ) ومسلم ( 3/81 ، 5/73 ) ومالك في ( الموطأ ) ( 2/228 ) وأبو داود ( 2/15 ) والنسائي ( 2/129 ) وابن ماجه ( 2/160 ) والبيهقي ( 4/62 ، 6/277 - 278 ) وأحمد ( 6/51 ) .
والسياق للبخاري في إحدى روايتيه ، والزيادة الاخيرة له في الرواية الاخرى ، وابن ماجه ، وله الزيادة الثانية ، ولمسلم الاولى .
الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنه . ( أن سعد بن عبادة - أخا بني ساعدة - توفيت أمه وهو غائب عنها ، فقال : يا رسول الله إن أمي توفيت ، وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدقت بشئ عنها ؟ قال : نعم ، قال : فإني أشهدك أن حائط المخراف3صدقة عليها ) . أخرجه البخاري ( 5/297 ، 301 ، 307 ) وأبو داود ( 2/15 ) والنسائي ( 2/130 ) والترمذي ( 2/25 ) والبيهقي ( 6/278 ) وأحمد ( 3080 - 3504 - 3508 ) والسياق له
الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أنه رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه ؟ قال : نعم ) . أخرجه مسلم ( 5/73 ) والنسائي ( 2/129 ) وابن ماجه ( 2/160 ) والبيهقي ( 6/278 ) وأحمد ( 2/371 ) .
الرابع : عن عبد الله بن عمرو : ( أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة ، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة ، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية ، قال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة ، وإن هشاما أعتق عنه خمسين ، وبقيت عليه خمسون ، أفأعتق عنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنه لو كان مسلما فأعتقتم أو تصدقتم عنه ، أو حججتم عنه بلغه ذلك ، ( وفي رواية ) : فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك ) 4 . ( أخرجه أبو داود في آخر ( الوصايا ) ( 2/15 ) والبيهقي ( 6/279 ) والسياق له ، وأحمد ( رقم 6704 ) والرواية الاخرى له ، وإسنادهم حسن .
خامسا : ما خلفه من يعده من آثار صالحة وصدقات جارية ، لقوله تبارك وتعالى : { ونكتب ما قدموا وآثارهم } ، وفيه أحاديث :
الاول : عن ابي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات الانسان انقطع عنه عمله5إلا من ثلاثة [ أشياء ] ، إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح6 يدعو له ) . أخرجه مسلم ( 5/73 ) والسياق له والبخاري في ( الادب المفرد ) ( ص 8 ) وأبو داود ( 2/15 ) والنسائي ( 2/129 ) والطحاوي في ( المشكل ) ( 1/85 ) والبيهقي ( 6/278 ) وأحمد ( 2/372 ) ، والزيادة لابي داود والبيهقي .
الثاني : عن أبي قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث : ولد صالح يدعو له ، وصدقة تجري يبلغه أجرها ، وعلم يعمل به من بعده ) . أخرجه ابن ماجه ( 1/106 ) وابن حبان في ( صحيحه ) ( رقم 84 ، 85 ) والطبراني في ( المعجم الصغير ) ( ص79 ) وابن عبد البر في ( جامع بيان العلم ) ( 1/15 ) وإسناده صحيح كما قال المنذري في ( الترغيب ) ( 1/58 )
الثالث : عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ، علما علمه ونشره . وولدا صالحا تركه ، ومصحفا ورثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته ) . أخرجه ابن ماجه ( 1/106 ) بإسناد حسن ، ورواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) أيضا والبيهقي كما قال المنذري .
الرابع : عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، فجاءه أقوام حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف ، [ وليس عليهم أزر ولا شئ غيرها ] عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعر ( وفي رواية : فتغير - ومعناهما واحد ) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ، ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن وصلى [ الظهر ، ثم صعد منبرا صغيرا ] ، ثم خطب [ فحمد الله وأثنى عليه ] فقال : [ أما بعد فإن الله أنزل في كتابه ] : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ، إن الله كان عليكم رقيبا } ، والاية التي في ( الحشر ) : { ويا أيها الذين آمنوا }اتقوا الله ولتنظر ننسى ما قدمت لغد واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون . { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون . لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون } . تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة ] ، تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، [ من شعيره ] ، من صاع تمره ، حتى قال : [ ولا يحقرن أحدكم شيئا من الصدقة ] ، ولو بشق تمرة ، [ فأبطؤوا حتى بان في وجهه الغضب ] ، قال : فجاء رجل من الانصار بصرة [ من ورق ( وفي رواية : من ذهب ) ] كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت [ فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره ] [ فقال : يا رسول الله هذه في سبيل الله ] ، [ فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ، [ قام أبو بكر فأعطى ، ثم قام عمر فأعطى ، ثم قام المهاجرون والانصار فأعطوا ] ، ثم تتابع الناس [ في الصدقات ] ، [ فمن ذي دينار ، ومن ذي درهم ، ومن ذي ، ومن ذي ] حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها ، و[ مثل ] أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ، ومن سن سنة في الاسلام سيئة كان عليه وزرها . و[ مثل ] وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ ، [ ثم تلى هذه الاية : { ونكتب ما قدموا وآثارهم} ] ، [ قال : فقسمه بينهم ] ) . أخرجه مسلم ( 3/88 ، 89 ، 8/61 ، 62 ) والنسائي ( 1/ 355 ، 356 ) والدارمي ( 1/126 ، 127 ) والطحاوي . في ( المشكل ) ( 1/93 ، 97 ) والبيهقي ( 4/175 ، 176 ) والطيالسي ( 670 ) وأحمد ( 4/357 ، 358 ، 359 ، 360 ، 361 ، 362 ) وابن أبي حاتم أيضا في ( تفسيره ) ، كما في ابن كثير ( 3/565 ) والزيادة التي قبل الاخيرة له ، وإسنادها صحيح ، وللترمذي ( 3/377 ) وصححه وابن ماجه ( 1/90 ) الجملتان اللتان قبل الزيادة المشار إليها مع الزيادتين فيهما .
وأما الزيادة الاولى فهي للبيهقي ، وما بعدها إلى الرابعة له ولمسلم ، والخامسه حتى الثامنة للبيهقي ، وعند الطيالسي الخامسة ، والتاسعة للدارمي وأحمد ، ولمسلم نحوها وكذا الطيالسي وأحمد أيضا ، والعاشرة والثانية عشر والخامسة عشر والتاسعة عشر للبيهقي ، والحادية عشر والسابعة عشر للطحاوي وأحمد ، والرابعة عشر للطيالسي ، والسادسة عشر والسابعة عشر لمسلم والترمذي وأحمد وغيرهم . والرواية الثانية للنسائي والبيهقي : والثالثة للطحاوي وأحمد
***********************
1 قلت : وهذه الاحاديث صريحة الدلالة في مشروعية صيام الولي عن الميت صوم النذر ، إلا أن الحديث الاول يدل بإطلاقه على شئ زائد على ذلك وهو أنه يصوم عنه صوم الفرض أيضا . وقد قال به الشافعية ، وهو مذهب ابن حزم ( 7 / 2 ، 8 ) وغيرهم . وذهب إلى الأول الحنابلة ، بل هو نص الامام أحمد ، فقال أبو داود في ( المسائل ) ( 96 ) : ( سمعت أحمد بن حنبل قال : لا يصام عن الميت إلا في النذر ) . وحمل أتباعه الحديث الاول على صوم النذر ، بدليل ما روت عمرة : أن أمها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة : أقضيه عنها ؟ قالت : لا بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين . أخرجه الطحاوي ( 3 / 142 ) وابن حزم ( 7 / 4 ) واللفظ له بإسناد قال ابن التركماني : ( صحيح ) وضعفه البيهقي ثم العسقلاني ، فإن كانا أرادا تضعيفه من هذا الوجه ، فلا وجه له ، وإن عنيا غيره ، فلا يضره ، وبدليل ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ( إذا مرض الرجل في رمضان ، ثم مات ولم يصم ، أطعم عنه وثم يكن عيه قضاء وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه ) . أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين ، وله طريق آخر بنحوه عند ابن حزم ( 7 / 7 ) وصحح إسناده . وله طريق ثالث عند الطحاوي ( 3 / 142 ) ، لكن الظاهر أنه سقط من متنة شئ من الناسخ أو الطابع ففسد المعنى . قلت : وهذا التفصيل الذي ذهبت إليه أم المؤمنين : وحبر الامة أبن عباس رضي الله عنهما وتابعهما إمام السنة أحمد بن حنبل هو الذي تطمئن إليه إلنفس ، وينشرح له الصدر ، وهو أعدل الاقوال في هذه المسألة وأوسطها وفيه إعمال لجميع الاحاديث دون رد لاي واحد منها ، مع الفهم الصحيح لها خاصة الحديث الاول منها ، فلم تفهم منه أم المؤمنين ذلك الاطلاق الشامل لصوم رمضان ، وهي راويته ، ومن المقرر أن رأوي الحديث أدرى بمعنى ما روى ، لا سيما إذا كان ما فهم هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها ، كما هو الشأن هنا ، وقد بين ذلك المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى ، فقال في ( إعلام الموقعين ) ( 3 / 554 ) بعد أن ذكر الحديث وصححه :
" فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه ، وقالت : يصام عنه النذر والفرض . وأبت طائفة ذلك وقالت : لا يصام عنه نذر ولا فرض ، وفصلت طائفة فقالت : يصام عنه النذر دون الفرض الاصلي . وهذا قول ابن عباس وأصحابه ، وهو الصحيح ، لان فرض الصيام جار مجرى الصلاة ، فكما لا يصلي أحد عن أحد ، ولا يسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام ، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين ، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه ، وهذا محض الفقه . وطرد هذا أنه لا يحج عنه ، ولا يزكي عنه إلا إذا كان معذورا بالتأخير كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر ، فأما المفر من غير عذر أصلا فلا ينفعه أداء غيره لفرائض الله التي فرط فيها ، وكان هو المأمور بها أبتلاء وامتحانا دون الولي ، فلا تنفع توبة أحد عن أحد ، ولا إسلامه عنه ، ولا أداء الصلاة عنه ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات " . قلت : : وقد زاد ابن القيم رحمه الله هذا البحث توضيحا وتحقيقا في ( تهذيب السنن ) ( 3 / 279 - 282 ) فليراجع فإنه مهم .
2 بضم المثناة وكسر اللام ، أي سلبت ، على ما لم يسم فاعله ، أي ماتت فجأة .
3 أي المثمر ، سمي بذلك لما يخرف منه أي يجي من الثمرة .
4 قال الشوكاني في ( نيل الاوطار ) ( 4 / 79 ) : ( وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما ، ويصل إليهما ثوابها ، فيخصص بهذه الاحاديث عموم قوله تعالى ( وأن ليس للانسان إلا ما سعى ) . ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد ، وقد ثبت أن ولد الانسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص ، وأما من غير الولد فالظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت ، فيوقف عليها ، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصحها ) . قلت : وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية ، أن الاية على عمومها وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد لانه من سعيه بخلاف غير الولد ، لكن قد نقل النووي وغيره الاجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصله ثوابها ، هكذا قالوا ( الميت ) فأطلقوه ولم يقيدوه بالوالد ، فإن صح هذا الاجماع كان مخصصا مومات
التي أشار إليها الشوكاني فيها يتعلق بالصدقة ، ويظل ما عداها داخلا في العموم كالصيام وقراءة القرآن ونحوهما من العبادات ، ولكنني في شك كبير من صحة الاجماع المذكور ، وذلك لامرين : الاول : أن الاجماع بالمعنى الاصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي علمت من الدين بالضرورة ، كما حقق ذلك العلماء الفحول ، كابن حزم في ( أصول الاحكام ) والشوكاني في ( إرشاد الفحول ) والاستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه ( أصول الفقه ) وغيرهم ، وقد أشار إلى ذلك الامام أحمد في كلمته المشهورة في الرد على من أدعى الاجماع - ورواها عنه أبنه عبد الله بن أحمد في ( المسائل ) . الثاني : أنني سيرت كثيرا من المسائل التي نقلوا الاجماع فيها ، فوجدت الخلاف فيها معروفا بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الاجماع فيها ، ولو شئت أن اورد الامثلة على ذلك لطال الكلام وخرجنا به عما نحن بصدده . فحسبنا الان أن نذكر بمثال واحد ، وهو نقل النووي الاجماع على أن صلاة الجنازة لا تكره في الاوقات المكروهة مع أن الخلاف فيها قديم معروف ، وأكثر أهل العلم على خلاف الاجماع المزعوم ، كما سبق تحقيقه في المسألة ( 87 ) ، ويأتي لك مثال آخر قريب إن شاء الله تعالى
وذهب بعضهم إلى قياس غير الوالد على الوالد ، وهو قياس باطل من وجوه : الاول : أنه مخالف العموميات القرآنية كقوله تعالى ( ومن تزكى فإنما يتزكي لنفسه ) وغيرها من الايات التي علقت الفلاح ودخول الجنة بالاعمال الصالحة ، ولا شك أن الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه على فكان له أجر ه بخلاف غيره . الثاني : أنه قياس مع الفارق إذا تذكرت إن الشرع جعل الولد من كسب الوالد كما سبق في حديث عائشة فليس هو كسبا لغيره ، والله عز وجل يقول : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ويقول ( لها ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت ) . وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله عز وحل ( وأن ليس للانسان إلا ما سعى ) : ( أي كما لا يحمل عليه وزر غيره ، كذلك لا يحصل من الاجر إلا ما كسب هو لنفسه . ومن هذه الاية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداه ثوابها إلى الموتى لانه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا ايماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الاقيسة والاراء ) وقال العز بن عبد السلام في ( الفتاوى ) ( 24 / 2 - عام 1692 ) : ( ومن فعل طاعة الله تعالى ، ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت ، لم ينتقل ثوابها إليه ، إذ ( ليس للانسان إلا ما سعى ) ، فإن شرع في الطاعة ناويا أن يقع عن الميت لم يقع عنه ، إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج ) . وما ذكره ابن كثير عن الشافعي رحمه الله تعالى هو قول أكثر العلماء وجماعة من ، الحنفية كما نقله الزبيدي في ( شرح الاحياء ) ( 10/ 369 ) . [ قلت : ومما بسق تعلم بطلان الاجماع الذي ذكره ابن قدامة في ( المغني ) ( 2 / 569 ) على وصول ثواب القراءة إلى الموتى ، وكيف لا يكون باطلا ، وفي مقدمة المخالفين الامام الشافعي رحمه الله تعالى . وهذا مثال آخر من أمثلة ما ادعى فيه الاجماع وهو غير صحيح ، وقد سبق التنبيه على هذا قريبا ]
الثالث : أن هذا القياس لو كان صحيحا ، لكان من مقتضاء استحباب إهداء الثواب إلى الموتى ولو كان كذلك لفعله السلف ، لانهم أحرس على الثواب منا بلا ريب ، ولم يفعلوا ذلك كما سبق في كلام ابن كثير ، فدل هذا على ان القياس المذكور غير صحيح ، وهو المراد . وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ( الاختيارات العلمية ) ( ص 54 ) : ( ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا ، أو قروؤا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين ، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل ) . وللشيخ رحمه الله تعالى قول آخر في المسألة ، خالف فيه ما ذكره آنفا عن السلف ، فذهب إلى أن الميت ينتفع بجميع العبادات من غيره . وتبنى هذا القول وانتصر له ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ( الروح ) بما لا يهض من القياس الذي سبق بيان بطلانه قريبا ، وذلك على خلاف ما عهدناه منه رحمه الله من ترك التوسع في القياس في الامور التعبدية المحضة لا سيما ما كان عنه على خلاف ما جرى عليه السلف الصالح رضي الله عنهم وقد أورد خلاصة كلامه العلامة السيد محمد رشيد رضا في ( تفسير المنار ) ( 8 / 254 - 270 ) ثم رد عليه ردا ا
قويا ، فليراجعه من شاء أن يتوسع في المسألة . . وقد استغل هذا القول كثير من المبتدعة ، واتخذوه ذريعة في محاربة السنة ، واحتجوا بالشيخ وتلميذه على أنصار السنة وأتباعها ، وجهل أولئك المبتدعة أو تجاهلوا أن أنصار السنة ، لا يقلدون في دين الله تعالى رجلا بعينة كما يفعل اولئك ولا يؤثرون على الحق الذى تبين لهم قول أحد من العلماء مهما كان اعتقادهم حسنا في علمه وصلاحه ، وأنهم إنما ينظرون إلى القول لا إلى القائل ، وإلى الدليل ، وليس إلى التقليد ، جاعلين نصب أعينهم قول امام دار الهجرة ( ما منا من أحد إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر ) وقال : ( كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ) . وإذا كان من المسلم به عند أهل العلم أن لكل عقيدة أو رأى يتبناه في هذه الحياة أثرا في سلوكه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فإن من المسلم به أيضا ، أن الاثر يدل على المؤثر ، وأن أحدهما مرتبط بالاخر ، خيرا أو شرا كما ذكرنا ، وعلى هذا فلسنا نشك أن لهذا القول أثرا سيئا في من يحمله أو يتبناه ، من ذلك مثلا أن صاحبه يتكل في تحصيل الثواب والدرجات العاليات على غيره ، لعلمه أن الناس يهدون الحسنات مئات المرات في اليوم الواحد إلى جميع المسلمين الاحياء منهم والاموات ، وهو واحد منهم ، فلماذا لا يستغني حينئذ بعمل غيره عن سعيه وكسبه . ألست ترى مثلا أن بعض المشايخ الذين يعيشون على كسب بعض تلامذتهم ، لا يسعون بأنفسهم ليحصلوا على قوت يومهم بعرق جبينهم وكد يمينهم . وما السبب في ذلك إلا أنهم استغنوا عن ذلك بكسب غيرهم فاعتمدوا عليه وتركوا العمل ، هذا أمر مشاهد في الماديات ، معقول في المعنويات كما هو الشأن في هذه المسألة . وليت أن ذلك وقف عندها ، ولم يتعدها إلى ما هو أخطر منها ، فهناك قول بجواز الحج عن الغير ولو كان غير معذور كأكثر الاغنياء التاركين للواجبات فهذا القول يحملهم على التساهل في الحج والتقاعس عنه ، لانه يتعلل به ويقول في باطنه : يحجون عني بعد موتي بل إن ثمة ما هو أضر من ذلك ، وهو القول بوجوب إسقاط الصلاة ، عن الميت التارك لها فإنه من العوامل الكبيرة على ترك بعض المسلمين للصلاة ، لانه يتعلل بأن الناس يسقطونها عنه بعد وفاته إلى غير ذلك من الاقوال التي لا يخفى سوء أثرها علي المجتمع ، فمن الواجب على العالم الذي يريد الاصلاح أن ينبذ هذه الاقوال لمخالفتها نصوص الشريعة ومقاصدها الحسنة . وقابل أثر هذه الاقوال بأثر قول الواقفين عند النصوص لا يخرجون عنها بتأويل أو قياس تجد الفرق كالشمس . فإن من لم يأخذ بمثل الاقوال المشار إليها لا يعقل أن يتكل على غيره في العمل والثواب ، لانه يرى أنه لا ينجيه إلا عمله ، ولا ثواب له إلا ما سعى إليه هو بنفسه ، بل المفروض فيه أن يسعى ما أمكنه إلى أن يخلف من بعده أثرا حسنا يأتيه أجره ، وهو وحيد في قبره ، بدل تلك الحسنات المرهومة ، وهذا من الأسباب الكثيرة في تقدم السلف وتأخرنا ، ونصر الله إياهم ، وخذلانه إيانا ، نسأل الله تعالى أن يهدينا كما هداهم ، وينصرنا كما نصرهم .
5 أي فائدة عمله وتجديد ثوابه ، قال الخطابى في ( المعالم ) : ( فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الابدان لا تجري فيها النيابة وقد يستدل ، به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة اللحاج دون المحجوج عنه ، وإنما يلحقه الدعاء ، ويكون له الاجر في المال الذي أعطى إن كان حج عنه بمال ) .
6 قيد بالصالح لان الاجر لا يحصل من غيره ، وأما الوزر فلا يلحق بالوالد من سيئة ولده إذا كان نيته في تحصيل الخير ، وإنما ذكر الدعاء له تحريضا على الدعاء لابيه ، لا لانه قيد ، لان الاجر يحصل للوالد من ولده الصالح ، كلها عمل عملا صالحا ، سواء أدعا لابيه أم لا ، كمن غرس شجرة يحصل له من أكل ثمرتها ثواب سواء أدعا له من أكلها أم لم يدع ، وكذلك الام . كذا في ( مبارق الازهار في شرح مشارق الانوار ) ابن الملك .